الشعور بالذنوب والآثام ورد المظالم والاعتراف بالحقوق بقصة "دياب" للقاص محمد صالح رجب
الشعور بالذنوب والآثام ورد المظالم والاعتراف بالحقوق بقصة "دياب" للقاص محمد صالح رجب
بقلم
محمود سلامه الهايشه
كاتب وباحث مصري؛ elhaisha@gmail.com
الشعور بالذنوب والآثام
ورد المظالم والاعتراف بالحقوق
بقصة "دياب" للقاص
محمد صالح رجب
ما أجمل أن تقرأ قصة قصيرة فيها فكرةٌ، ومهارة سردية عالية من
كاتبها، فمن أول جملة بالقصة (جملة الابتداء) تعرف أبطالَها، وتتوقَّع
الصراع الذي تتشوق له كقارئ؛ كي تلتهم قراءتها بسرعة لتعرِف المشكلةَ والحل،
ولمحبي قراءة النهايات أولًا ستجد الخبرَ في الجملة الأخيرة بالقصة على المبتدأ
بالجملة الأولى بالقصة، فهيَّا بنا نقرأ سويًّا قصة "دياب" للكاتب
"محمد صالح رجب المنشورة بصفحة 40 بالعدد الثالث 2020 من مجلة أوراق ثقافية
الصادرة عن إقليم شرق الدلتا الثقافي، الهيئة العامة لقصور الثقافة المصرية.
يقول الراوي في أول القصة:
(انتابته نوبة ضحك هستيرية حين سمع اعترافات زوجته)، وتنتهي القصة (تلقى اعترافاتها بمزيد
من الضحك، وكغيره ممن سمعها وضع اعترافاتها تحت بند "غيرة ستات")،
وكأن الكاتب وضع قوسين جملتي البدء والانتهاء وبينهما متن قصته؛ مما يدل على امتلاكه
لأدواته الفنية في كتابة القصة القصيرة، فقد انتابت "دياب" البطل نوبة
ضحك هستيرية في بداية الحكاية، وانتهت أيضًا بضَحِكِه على اعترافات زوجته، تدور
أحداث القصة ما بين البيت والمستشفى كمكانٍ؛ حيث تتمحور مشكلتها حول التشخيص الخطأ
للبطل الزوج "دياب"، وبين إحباطه ويأسه، ثم اعترافه بخطاياه وآثامه التي
ارتكبها على مدار عمره البالغ أربعين سنة، وإقراره بالحقوق التي عليه تجاه أهله
أوَّلُهم زوجته، وأرملة شقيقه، وأولاد أخيه الأيتام، ثم يكتشف أن التقارير الطبية
جميعها لمريض آخر غيره، فيرجع إلى سيرته القديمة.
يمرُّ الإنسان بفترة يتوهَّم نفسَه أنه شخصيةٌ ضعيفة، وعند شعور
الإنسان بهذا الإحساس، فإنه يمرُّ بفترة حساب لنفسه وتقييمها، وهذا الشعور وذاك
الإحساس تعرَّض له البطل "دياب": (حين شعر دياب بوعكة
صحية تطلبت مراجعة الطبيب، وعمل بعض التحاليل والفحوصات التي كانت نتيجتها صادمة،
جعلت دياب يجلس في بيته منكسرًا تعج غرفته بالزائرين.. )،
هو الشعور بالانكسار أمام الآخرين، وعدم تفضيل الاختلاط مع الآخرين، والهروب من
المواقف الاجتماعية، (نظر دياب إلى الفراغ
المحيط، تسلق بنظراته جبال الهم الشاهقة، تسمرت عيناه باتجاه السقف، هبط ببصره إلى
الغرفة المكتظة بالحضور، عيناه الجاحظتان تعيد المسح والتخزين، بينما تلتقط أذناه
ندب العيون النائحة .. وعلى بقايا حطامه يعود ويستسلم لقدره(،
تأثر بكلام ونظرات الآخرين له، وليس لديه القدرة على الدفاع عن نفسه، (يهمس لنفسه، مؤكد أنني
أحسن حالًا من غيري .. حسنًا فعل الطبيب حين أخبرني أن شهورًا عدة تفصلني عن
الموت، أربعون عامًا منذ قدمت إلى الدنيا أنتظره، لا أعرف متى ولا أين، الآن هو من
ينتظرني)، ويعتبر الشعور باليأس
والإحباط شيئًا طبيعيًّا في حياة كل الناس بعد الخروج من تجربة صعبة ومؤلمة، وفي
حالة "دياب" كانت تجربة مرضه، وعادة ما تُصاحب الإحباط علامات جسدية،
كفِقدان الشهية واضطرابات في النوم وآلام الظهر، والإحساس الدائم بالتعب، ولكن
"دياب" قرَّر بينه وبين نفسه، (هي فرصة لأودع أحبابي، لأتطهَّر من ذنوبي،
لأغتسل من خطاياي، فرصة لأطلب السماح من زوجتي عما أتذكره من خيانات، وأرد ما
اغتصبته من حقوق، فرصة لأرتاد المساجد وأتقرب إلى الله ... إنها فرصة ذهبية لتعرف
عيناي طعم الدموع ندمًا وتطهرًا .. شهور عدة وقت قليل مقارنة بما اقترفته يداي من
آثام).
لا بد للإنسان أن يواجه الأمراض، خاصة الخطيرة والمستعصية بالإرادة
القوية الممزوجة بالرضا بقضاء الله وقدره، ولذلك لا يُقر الإسلام استسلامًا لمرض،
ولا يأسًا من شفاء مهما كان المرض خطيرًا، ومهما كانت تقديرات الأطباء، وبالفعل
اتخذ "دياب" أن يسلك هذا المسلك (عليَّ إذًا أن أسابق
الزمن، من الغد سأغادر رقدتي هذه، سأتمرد على تعليمات الطبيب، لن أستسلم لحالة
الإحباط التي تملكني، سأشرع في رحلة التطهر، لن ألتفت إلى اعتراض زوجتي ولا دموعها)، الخطأ في حياة الناس
أمر وارد الحدوث، ولا يستطيع إنسان أن يدَّعي العصمة مهما كان شأنه، فيقول: أنا لا
أخطئ، وصدق رسولنا صلى الله عليه وسلم حين قال: "كل بني آدم خطاء وخيرُ
الخطائين التوابون"؛ (حديث حسن، أورده الألباني في صحيح الجامع ح رقم
4515)؛
لأن الرجوع إلى الحق يعني الاعتراف بالخطأ، وهذا قلَّما يقبله إنسان أو يعترف به،
ولكن "دياب" بطل قصتنا قرَّر الرجوع للحق والاعتراف بأخطائه كلها دفعة
واحدة، (في الغد بعد موعد الطبيب، سأذهب بها إلى الشهر العقاري، سأكتب لها
توكيلًا، سأجعل لها ذمتها المالية المستقلة، لطالَما طالبتني أن تشاركني ملكية
الأراضي التي اشتريتها وهي مَن ساهمت فيها بإرثها الكبير، كانت تخشى أن أتزوج
عليها، تخشى أن أتخلى عنها بعد أن جردتها من أموالها، الآن تبكيني وتتوسل إليَّ،
وتمنعني أن أذهب، فأنا عندها كما تقول أهم من كنوز الدنيا، لن أرضخ لها، لم تقف
الحواجز أمامي وأنا أدهس الأرض بقوة، اغترف من كل شيء دون اعتبار لأي شيء، في رحلة
العودة لن أسمح أيضًا لأحد أن يمنعني)، قال الفخر الرازي: اعلم
أنه تعالى أكد الوعد في أكل مال اليتيم ظلمًا، وقد كثر الوعيد في هذه الآيات مرة
بعد أخرى على من يفعل ذلك؛ كقوله: ﴿ وَآتُوا الْيَتَامَى
أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ ﴾ [النساء: 2]، وكقوله: ﴿ وَلْيَخْشَ الَّذِينَ
لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا ﴾ [النساء:
9]، ولأن الرجوع إلى الحق يعني إكساب الآخرين رجاحة القول والرأي، وقد يُلحق
النقيصة بالعائد في قراره، وهذا أيضًا لا يقدر عليه إلا الكبار، (لن أرضخ لزوجة أخي ولا
لبناته اللاتي يجلسن من حولي، تفيض دموعهنَّ حزنًا عليّ، نسوا كل شيء سامحوني،
دعواتهم تصلني فتزيد أوجاعي، كيف طوعت لي نفسي أن أسطو على حقوق أخي الأصغر؟ مات
أبي وتصرفت في كل شيء كأنه ملك خاص لي، خاطبني أخي على استحياء حين همًّ بالزواج،
ساعدته وكأني أتفضل عليه، ولم يفعلها بعد، مرات كثيرة سمعتها من زوجته بعد مماته،
كانت تذكرني بأطفاله الأيتام، ولا يحرك في الأمر شيئًا، فقط كنت أقسم بأغلظ
الأيمان أنه حصل على كل حقوقه ... ذاكرتي وكأنها تجرعت شيئًا من المنشطات، تتكذر
تباعًا آثامي، إنها تبدو كسراب كلما تذكرت منها شيئًا وظننت أنه الأخير، إذا بها
تذكرني بأخرى وكأن حياتي كانت سلسلة متصلة من الآثام(،
والكبار إذا أصابهم ما يُصيب البشر من الخطأ والنسيان عادوا مسرعين: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ
اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ
مُبْصِرُونَ ﴾ [الأعراف:201].
كتب الدكتور فايز أبو حميدان في بوابة الحقيقة الدولية، بتاريخ 28
أكتوبر 2017: "إن التعامل مع الأخطاء الطبية فن يجب على الطبيب إتقانه بقدرٍ
كافٍ كونه الشخص الأول المؤتمن على صحة المريض وحياته، وهذا بحد ذاته ينعكس على
سلوكياته أثناء تأديته لواجبه؛ مما يوجب ويُحتِّم عليه مراعاة الضوابط الأخلاقية
اللازمة لممارسة هذه المهنة النبيلة السامية بكل إتقانٍ وإخلاص، وعدم التهاون بها،
ولا الاستخفاف بأهميتها"، وبالفعل هذا ما حدث مع "دياب" وزوجته، (في الصباح كان بصحبة
زوجته في المستشفى بين يدي الطبيب، كان الطبيب باشًّا هذه المرة، هو أيضًا كان
هادئًا مطمئنًّا إلى أن حدَّثه الطبيب معتذرًا عن خطأ غير مقصود، اضطرب ولم
يستوعب، تساءل عما قاله بداعي أنه لم يفهم، كرر الطبيب اعتذاره قائلًا: ثمة خطأ،
لقد اسًتبدلت التحاليل الخاصة بك بتحاليل مريض آخر، أنت معافًى تمامًا .. تساءل:
والموت الذي ينتظرني؟! رد الطبيب بهدوء: الأعمار بيد الله).
صدرت دراسة من بوسطن أجريت على 989 شكوى مقدمة من مرضى لاعتقادهم
بوجود أخطاء طبية، إلا أنه تبيَّن لاحقًا بعد مناقشة هؤلاء المرضى والجهات
المسؤولة في المؤسسات الصحية وجود 241 خطأً طبيًّا فعليًّا، وقد تَم تعويض هؤلاء
المرضى المتضررين من إدارة تلك المؤسسات مبلغ إجمالي وصل 75 ألف دولار أمريكي.
يبحث الإنسان دائمًا عن السعادة، فهي مفتاح الحياة التي يتمناها كل
إنسان على وجه الأرض، بعيدًا عن أي شعور يؤدي إلى المعاناة أو الإحساس بالألم،
فالسعادة هي مبتغى الجميع؛ لأن معها يشعر الإنسان بالراحة والطمأنيينة والأمان،
وهذا ما حدث مع "دياب" وزوجته عندما أبلغه الطبيب بحدوث خطأ طبي غير
مقصود في تقاريره الطبية، (لم يكن يعرف أيقبله أم يقتله، بعد لحظات تيه قصيرة حسم أمره وقبله،
احتضن زوجته بعنفٍ، لم يتذكر الشهر العقاري ولم تشأ زوجته أن تذكِّره، كانت تريد
له أن يكون هكذا، سعيدًا(؛
المشهد الدرامي به الكثير من التفاصيل التي تخدم الحدث، بدون تطويل مملٍّ أو تقصير
مُخلٍّ؛ مما يجعل القارئ يقرأ المشهد وكأنه يراه، ويتصور انطباعات وانفعالات
الشخصيات داخل المكان "مسرح الحدث"، ونشيد هنا بوفاء زوجة
"دياب" ووقوفها بجوار زوجها في السراء والضراء بمالها ومجهودها
ومشاعرها، بعكس عدم وفاء الزوجة بالهروب من زوجها بعد أن فُصِلَ من وظيفته في قصة
"قنديل الحزين"،
وهي إحدى قصص المجموعة القصصية "رسائل فلاح فقير"
للقاص
"سعد الحفناوي"،
والصادرة عن سلسلة أدب الجماهير، ودار الإسلام للطباعة والنشر عام 2012.
وفجأة ينقلب وضع "دياب" رأسًا على عقب، وتظهر قلة أصله
ونكرانه للمعروف والجميل مرة أخرى، إذًا تكتشف زوجته بعد بضعة أيام من معرفته
حقيقةَ وضعه الصحي، (لكنها علمت بعد أيام قليلة أنه في الطريق للزواج بأخرى اعترفت له،
أخبرته أن الموت بانتظاره، وأن ما أخبره به الطبيب كان بالاتفاق معها، لكنها لم
يصدِّقها، تلقى اعترافاتها بمزيد من الضحك وكغيره ممن سمعها، وضع اعترافاتها تحت
بند "غيرة ستات")،
يا لها من قفلة لتلك القصة، ولكننا نذكر بالحكمة القائلة: "الأصل في التسامح أن
تستطيع الحياة مع قوم تعرف يقينًا أنهم خاطئون".
تعليقات
إرسال تعليق