سيكولوجية الضغوط عند صاحبة الملف الأصفر وتحليلها سلوكيًّا
سيكولوجية الضغوط عند صاحبة الملف الأصفر وتحليلها سلوكيًّا
بقلم
الكاتب والباحث/ محمود سلامه الهايشه
تتحمل المرأة العاقر في مجتمعنا عبء ذنبٍ لم تشارك في اقترافه، ويصبح
حديث الأطفال والإنجاب محور حياتها، وتشعر كما لو أن المجتمع كله ينظر إليها بعين
العطف أحيانًا، والازدراء أحيانًا أخرى، فتضطر في هذه الحال للانضواء على نفسها،
والعيش بعيدًا عن أعين الناس التي لا ترحم، وهذا ما يعني ببساطة أنها حرمت من كل
حقوقها، وأصبحت تشعر بأنها امرأة منقوصة، لا مكان لها في هذا العالم، حول هذه
الفكرة تدور أحداث القصة القصيرة "مِلف أصفر"
للكاتبة "رحاب
عمر" المنشورة في ص 54 العدد الثاني 2019 من مجلة أوراق ثقافية، الصادرة عن
إقليم شرق الدلتا الثقافي، الهيئة العامة لقصور الثقافة المصرية.
ظل بطل الراوية لقصة "ملف أصفر"
يراقب السيدة التي تحتضن
الملف الأصفر لأكثر من ساعة، فقد "اجتاحني الأنين المكتوم في نحيبها، اخترق
أذني كأنه ذبذبات وجه تروح وتجيء"، فهي حادة الحزن، مخيفة الكبرياء، المشهد
القصصي كان داخل عربة القطار، كانا جالسين بجوار بعضهما خلال رحلة عودتهما،
استغرقت القصة سويعات، فبعد الساعة التي كان الراوي يرصد تحركات وتصرفات حاملة
الملف الأصفر، لم يستغرق الحوار بينهما كثيرًا.
وحسب مدرسة التحليل النفسي عند "فرويد"، اللاشعور أو اللاوعي هو أهم منطقة
سيكولوجية نستطيع بموجبها أن ندرس سلوكياتنا، سواء منها السوية أو الشاذة، فالظاهر
على بطلة قصة "ملف أصفر"
وعلى لسان الراوي أنها:
"تحتضن ملفًا أصفر، كأنها تحمل جنينًا تخشى عليه، تنظر له وتبكي، تنتفض حين
تسمع أصوات القطارات التي تسير تباعًا ذهابًا وإيابًا ..."؛ فيتحول الغليان
داخل المرأة إلى قطرات دموع تنفس بها عما بداخلها من حزن؛ لذلك تنفجر المرأة
بالدموع، فالحزن الحاد لحاضنة ملفها الأصفر جعل بكاءها كالسيل الهادر، وتظهر غريزة
الأمومة لدى المرأة من الطفولة وهي من أقوى الغرائز؛ حيث تحتضن عروستها وتهتم بها،
وتكبر معها هذه الغريزة.
إن الغضب والصراخ والعصبية أمر يحصل لدى معظم الناس، وهو أمر طبيعي
إلى حد ما، ففي قصة "الملف الأصفر" البطلة تصرخ وتقول: "ابني ...
ابني، صغيري، أين ابني؟"، وبعد شد وجذب وضغط، و"لم يبقَ لها حيلة إلا
الصراخ حتى انتهى صوتها، وهدأت النار، ومات من مات، ونجا من نجا... بصوتها الضعيف
نهرتني... وقامت تسأل: أين طفلي؟"، من منا لا يفقد أعصابه عندما تواجهه مواقف
يصعب فيها السيطرة على المشاعر؟ إن بعض الأمهات تفقدن أعصابهن عند أول رد فعل
لأخطاء الصغار، وهو ما قد يشكل خطرًا كبيرًا عليهم، يجب تداركه قبل فوات الأوان،
وبقلم الكاتبة "رحاب عمر" جاء الرد على لسان البطل الراوي في حواره مع
البطلة الباكية والصارخة: "قلت لها: ماذا تقولين؟ لم يكن معك أطفال؟ نظرت لي
بتعجب قائلة: هل أنت متأكد؟! نعم متأكد ... كنتِ تنتظرين نفس القطار الذي أنتظر!
حتى إنكِ كنتِ تبكين"، ونستطيع أن نقول بأن الشخصية في تصور
"فرويد" بمثابة جبل الجليد؛ أي: إن ما هو خفي (العقل الباطن) أضخم بكثير
مما يظهر (العقل الظاهر)، وقد ظهر هذا جليًّا في فك عقدة ولغز القصة "ملف
أصفر"؛ (وهناك التقطت الملف الأصفر وأخذت تقبله ... ثم نظرت لي قائلة: هذا
ملفي الطبي، لقد ظهرت النتائج الأخيرة، أنا لن أنجب، كنت متعبة أني لست ككل
النساء، الآن فقد أدركت أني لست الأسوأ على الإطلاق، ساعدني في الابتعاد عن هنا،
رائحة الطفل المحروق تزكم قلبي)، وحين يحدث العقم تشعر المرأة بالدونية، وتفقد
الثقة بنفسها كأنثى بعدم قدرتها على الإنجاب، وقد تدخل في طور الاكتئاب أو العزلة،
وقد تزعم الكثيرات منهن، إنهن لا يفكرن إطلاقًا بموضوع الإنجاب، وهذا يعتبر
"حيلة دفاعية" تدافع بها عن نفسها، وعن التساؤلات الكثيرة التي تحوم
حولها، وهؤلاء النساء غالبًا ما يترددن على زيارة الطبيب بشكاوى مرضية، وفي الجانب
الخفي ما هي إلا أعراض نفسية جسيمة، تحاول إخفاء المشاعر السلبية الناتجة عن العقم.
ما يزيد الأمر سوءًا نتيجة ضغوط المجتمع المحيط على اللاتي لم يستطعن
الإنجاب، فيقعن فريسة الاكتئاب والإحباط، وعدم الشعور بالأمان، مع عدم الرغبة في
مواصلة الحياة الزوجية؛ فيقول الراوي بقصة "ملف أصفر" لرحاب عمر: (ربما
تخشى العودة أو تحمل أخبارًا غير سارة لأحد ... هكذا حدثت نفسي، أعتدل في جلستي،
وبقيت أنظر، في الساعة، وأخاطب روحي: هل أستطيع الانتظار أكثر دون أن أتدخل لأوقف
هذا السيل الهادر من البكاء؟"؛ وتتعدد الأمثلة لقصص وحكايات وتجارب عاشتها
كثيرات من النساء، حُرمن من نعمة الإنجاب، فتحملن ذنبًا كان خارجًا عن إرادتهن،
فتكون الضريبة التي تدفعها هؤلاء مزدوجة، ضريبة يفرضها المجتمع وأعرافه السائدة،
وضريبة حرمانها من عاطفة الأمومة المنتظرة ... ذكرت إحدى السيدات (في تحقيق
صحفي نشرت بصحيفة "الخليج" يوم 11 يونيو 2009): "إن عدم قدرة
المرأة على الإنجاب أمر خارج عن إرادة المرأة، وهو مشيئة الله عز وجل، فمن الظلم
أن تتهم المرأة بالعجز نتيجة هذا الأمر، بل على العكس يجب أن تلقى من المجتمع ومن
أقرب الناس إليها - ألا وهو الزوج - معاملة خاصة، تعوضها عن الكثير الذي فقدته
بحرمانها من نعمة الأمومة".
تعليقات
إرسال تعليق